بعد رحلة طويلة بالقطار عودة من الإسكندرية، أودِّع صديقاتي عند محطة مصر وأصعد كوبري المشاة لأعبر للجانب الآخر من شارع رمسيس. فقط وأنا في منتصف الكوبري أدرك إنها تقريبا الحادية عشرة مساءً، وأننا في الشتاء، وأن الشارع والكوبري والعالم يكاد يكون خاويا. يُجري عقلي حساباته التقليدية في مثل هذه الظروف فيراجع على ملابسي (جاكت طويل، تمام. بنطلون واسع، تمام. كوفية، تمام. بيريه على الراس، تمام)، ومشيتي (أسرع.. أسرع، تمام)، وأي حُلي ألبسها (خاتم صغير، تمام. سلسلة مش باينة، تمام)، ويُصدر الأوامر لجسمي فانكمش بداخله وافتح كل حواسي على الخارج في نفس الوقت لأستطيع أن أتصرف بسرعة إذا "ضايقني" أي شخص على الكوبري أو في الشارع. لا يأخذ الكوبري كالعادة إلا بضع دقائق، والتي تبدو-كالعادة-كساعات طويلة، أخترع خلالها سيناريوهات لانهيار الكوبري على الطريق، أو هجوم مجموعة من اللصوص عليّ، أو مقابلة أمرأة مجنونة تهذي وتتنبأ بمستقبلي. على الناحية الأخرى من شارع رمسيس أقف في مكان شبه مظلم و"ملقف" هواء لأحاول أن أجد تاكسي يرضى بالذهاب إلى مدينة نصر. أنظر حولي فأُدرك أن إلى يساري محل العصير الذي أشرب منه دائما، وإلى يميني.. هناك.. محل العصير الذي أتفاداه دائما، ومن بعده.. 291 شارع رمسيس.
كان جدي لأمي يهوى تملك وسكن العمارات المثلثة التي تبدو مثل قطعة من تورتة، فتطل شرفاتها على شارعين. في باب الشعرية والسكاكيني والظاهر، في رشدي والأزاريطة والإبراهيمية، حتى في أبو قير.. تملك وسكن واستأجر جدي العمارات المثلثة. ربما خانه الحظ مرة، في أبو قير، حيث اشترى بيت له ناصيتين ولكنه "مش شبه حتة الجاتوه"؛ ومرة أخرى، في أبو قير أيضا، عندما تغير نظام المقابر فأصبح قبره واحد وسط صف من المقابر.. لا يطل على ناصيتين ولكن يرى البحر من بعيد.
من الصعب أن أذهب إلى الإسكندرية دون أن أذكر جدي. من الأصعب أن أسير في شارع رمسيس دون أن أذكر جدتي. كثيرا ما يبدو لي بيت رمسيس وكأنه كان سكننا الخاص أنا وجدتي دونًا عن باقي العائلة، الذين يمرون في ذكرياتي عن هذا الوقت ككومبارس. ففي بيت رمسيس وُلِدت على سرير جدتي، نفس السرير الذي ماتت عليه بعدها بخمس سنوات. لا يعرف أحد من عائلتي كم السعادة التي تشملني عندما يقولون إنني أشبه جدتي في هذا أو ذاك. كثيرا ما تقول أمي: "اللي خلف ما ماتش.. يلدز ما ماتتش.. نفس البصة.. نفس الزغرة.. نفس الضحكة.. ساعات بأحس إني بأكلم مامتي مش بنتي". أُخيف أمي أحيانا بما أذكر عن بيت رمسيس، وتصر أنه لا يُعقل أن أذكر شيئا عنه وأنا دون السادسة من عمري. ولكن في لحظات الرضا.. تُقر أمي أن ذكرياتي كلها صحيحة..
كلاسيك بوي